Tuesday 30 March 2010


دور الفقه في تأصيل وحدة المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد النبيين وختام المرسلين وقائد الغر المحجلين، وعلى آل بيته الطاهرين الذين نفى الله عنهم الزيغ والريب فكانوا سادة الأمة ونبراس الأنوار في الأعصر المدلهمة وعلى أصحابه الذين كافحوا لنشر الدين وائتمنوا فوفوا مخلصين وصبروا فكتبوا مع الصادقين واتبعوا النبي الأمي والنور الذين أنزل معه فكانوا من المفلحين.
وبعد، فيطيب لي أن أشكر مؤسسة أبرار ومنتدى الوحدة الإسلامية على هذه اللفتة الطيبة- أسأل الله لنا ولهم الإخلاص فيها- والتي يحتفون فيها كل عام بأسعد حدث في تاريخ البشرية، مولد نبي الرحمة والرسول النعمة (صلي الله عليه وعلى آله وسلم). وكل عام يتجدد الحوار الذي نأمل أن يخرج عن الإطار فيصير من مجرد حوار إلى خطة عمل فاعلة يشارك الجميع- بصدق وتجرد- في تحقيقها. فلا أكمل من أن ينشغل المخلصون من أبناء الأمة الواحدة بشأن الأمة الواحدة فالمسلمون كما وصف النبي (صلوات الله وسلامه عليه) يشد بعضهم بعضا و في الحديث: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) (رواه مسلم عن النعمان بن بشير) وفي كل هذا تأسٍ بالجناب المحمدي حيث وصفه ربه فقال: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم" (التوبة: 128) قال الشيخ أحمد بن عجيبة في البحر المديد: " الإشارة: ينبغي لورثته – عليه الصلاة والسلام- الداعين إلي الله أن يتخلقوا بأخلاقه صلي الله عليه وسلم فيشق عليهم ما ينزل بالمؤمنين من المشاق والمكاره وييسرون ولا يعسرون ويحرصون علي الخير للناس كافة ويبذلون جهدهم في إيصاله إليهم، ويرحمونهم ويشفقون عليهم. وقال الورتجبي: شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف." (البحر المديد: 3/135)
ومن المجالات التي يشق فيها الإختلاف بين أبناء المدرسة الفكرية الواحدة مجال الأحكام العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية والمعروف اصطلاحا بعلم الفقه، وهو لاشك أمر صحي مبارك وعلامة من علامات ثراء هذه الأمة. ومنشأ هذا الاختلاف، تفاوت الناس في فهم النص وسعة الشريعة ومرونتها وقبل هذا حكمة الله الحاصلة في قوله: (ولا يزالون مختلفين) (هود: 118) قال في البحر المديد: " الاختلاف بين الناس حكم أزلي لا محيد عنه." غير أن الخلل يكمن في فهم الناس لهذا الاختلاف ونظرتهم إلى هذا التباين على أنه تباين شقاق لا تنوع أذواق. من هنا حولوا النعمة إلى نقمة وواجب علماء الأمة إعادة رأب هذا الصدع ولم هذا الشتات، لا عن طريق توحيد الآراء وإنما عن طريق بيان حكمة الاختلاف في الأمور الفقهية وغيرها والتأكيد على آداب الاختلاف وتجلية أبعاد هذه المنظومة النبوية في التعامل مع المتخالفين وبحث مساحات الاتفاق. يقول الدكتور محمد عماره:
(أولاً: إن توجيه جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى جانب التقريب بين المذاهب الفقهية، هو جهاد فى غير الميدان الحقيقى الأولى بالجهاد.. أو- على أحسن الفروض - هو جهاد فى الميدان الأسهل، الذى لا يمثل المشكلة الحقيقية فى الخلافات بين المذاهب الإسلامية.. وبين السنة والشيعة على وجه التحديد - فالفقه هو علم الفروع.. وكلما زاد الاجتهاد والتجديد فى الفقه الإسلامى كلما تمايزت الاجتهادات فى الأحكام الفقهية، ففتح الآفاق أمام تمايزات الاجتهادات هو الذى يحرك العقل الإسلامى المجتهد، وليس التقريب - فضلاً عن التوحيد لهذه الاجتهادات- فقط نريد احتضان الاجتهادات المذهبية والفقهية المتنوعة، والاستفادة بالملائم من أحكامها للتيسير على الناس، ولمواكبة المستجدات.
ثانيًا: إن الفقه هو علم الفروع.. وتمايز الاجتهادات فيه واختلاف المجتهدين فى أحكامه لم يكن فى يوم من الأيام يمثل مشكلة لوحدة الأمة؛ بل كان مصدر غنى وثراء للعقل الفقهى والواقع الإسلامى على السواء.. وفى الفقه كان الأئمة والعلماء، المختلفون فى المذاهب، يتتلمذ الواحد منهم على من يخالفه فى المذهب.. بل ورأينا فى تراثنا من العلماء الأعلام من يجمع المذاهب المتعددة فى فقهه وعطائه، فيفتى وفق مذهب، ويقضى وفق مذهب ثان، ويدرّس كل المذاهب لطلاب علمه ومريديه.
فاختلاف المذاهب الفقهية هو ظاهرة صحية فى الفكر الإسلامى، وهو مصدر من مصادر الغنى والثراء لهذا الفقه، ولا يمثل أية مشكلة لوحدة أمة الإسلام.. ومن ثم، فليس هو الميدان الحقيقى والأولى للجهاد الفكرى فى التقريب بين مذاهب المسلمين.
وثالثًا: إن الميدان الذى كان ولا يزال يمثل مشكلة لوحدة الأمة- التى هى فريضة إلهية وتكليف قرآنى- هو ميدان بعض الاجتهادات المذهبية فى المذاهب الكلامية الإسلامية.. وعلى وجه التحديد أحكام "التكفير" و"التفسيق" التى نجدها فى تراث هذه المذاهب. "
الأزمة أيها السادة لا تكمن في الفقه، وإنما تكمن في عدم الفقه (وأقصد بهذا الفقه بمعناه اللغوي الفهم) فنحن مطالبون أن نأخذ من الفقه معناه ونعيد تدويره وتطبيقه، لنحسن الفهم عن الله ونحسن الأخذ عن العلماء اختلفنا معهم أو اتفقنا. مما قد يفيد في هذا الباب هنا في الغرب، البحث في قضايا الأقليات المسلمة والاستفادة من الاجتهادات الفقهية المقدمة من العلماء المعتبرين بغض النظر عن مذهبهم. وقد أثبت لنا التاريخ حدوث هذا التلاقح بين السنة والشيعة فأخذ فقهاء القانون المصري بالوصية الواجبة سنة 1946 وتحديد سن الإنفاق على الأولاد من قبل الأب سنة 1985 استنادا إلى المذهب الجعفري، ويفتي كثير من المشايخ بوقوع الثلاث طلقات في المجلس الواحد واحدة إلي غير هذا من المسائل التي حدث فيها تمازج بين المدرستين. واتفاق المدرستين في اشتراط الأهلية لتعاطي الفقه والاجتهاد وتأسس هذا على كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وعلى آله وسلم أمر لا مرية فيه.
لذا: فنحن اليوم – في ذكراه صلي الله عليه وسلم- لا ندعوا إلى توحيد الفقه وإنما ندعوا إلي فقه التوحيد، ندعوا لإلغاء مساحة الضبابية التي لا تزال تعزلنا عن بعضنا البعض حتي نحسن الفهم، فهم طبيعة سنة الله عز وجل فنعمل على اتباعها والتأدب معها.
اللهم إنا نسألك الأخذ بأحسن ما تعلم والترك لسيئ ما تعلم ونسألك التكفل بالرزق والزهد في الكفاف، والمخرج بالبيان من كل شبهة والفلج بالصواب في كل حجة والعدل في الغضب و الرضى والتسليم لما يجري به القضا والاقتصاد في الفقر والغنى والتواضع في القول والفعل والصدق في الجد والهزل. اللهم نور بالعلم قلوبنا وخلص من الفتن أسرارنا وأشغل بالاعتبار أفكارنا وقنا شر وساوس الشيطان وأجرنا منه يا رحمن حتى لا يكون له علينا سلطان.
وصلي الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة بمناسبة المولد النبوي في مؤسسة أبرار- لندن يوم 2 مارس 2010 تحت رعاية منتدى الوحدة الإسلامية- ألقاها الشيخ أحمد سعد إمام المسجد المركزي بشمال لندن

No comments: