Friday 20 July 2007

إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده...والعاقبة للمتقين

فكرت كثيرا في الآية التي وضعتها عنوانا لهذه المقالة أو الخاطرة.....وتبين لي شيء ربما فات علي ذهني الكليل من قبل وهو أن الله سبحانه وتعالي حين اختص نفسه بالتشريع للعباد وتحديد مسارات تعاطيهم للأحكام...شرع لهم أحكاما عامة ووضع لهم ضوابط مجملة تحكم حياتهم وتنير طريقهم...بالضبط كما توضع العلامات علي جانبي طريق لتقول للسائرين "الطريق من هنا" وقد يفصل ربنا- جل وعلا- في موضع حين يحتاج المقام إلي تفصيل كما أن المعلم قد يفصل حين يحتاج الموقف إلى زيادة تبيان أو يخشي فيه من الشك أو الريب أو سدا لذريعة. ولأقرب هذا لذهن القارىء الكريم...نرى مثلا أن القرآن يفصل في أحكام الزواج وخاصة في قضية المهر (في حالة الطلاق قبل الدخول) نظراً لأن الناس غالبا ما تحدث بينهم مشاحنات وخلافات في مواقف كهذه.
لكن أمرا واحدا بين الله معالمة جملة وتفصيلا ووضع له الحدود الفاصلة حتى أوضح مقاديرة- ولم يترك مجالا لمخلوق أن يتفنن أو يستخدم مهاراته العقلية أو الحسابية فيه- ذلكم هو المواريث...فجعل آياته كلها وصايا والوصية - في رأيي- أوقع من الأمر...فالأمر قد تنفذه وأنت مقتنع به أو غير مقتنع..راض أو غير راض...أما الوصية فهي تنبعث من روح الحريص عليك العارف بما يصلحك وهو بوصيته يرضيك ويرضى عنك ويوقعك موقع الرضا من قلوب عباده. ولذلك أتت الآيات الكريمات اللاتي انتظمن في عقد سورة النساء: "يوصيكم الله في أولادكم....وصية من الله....ولكم نصف ما ترك أزواجكم." وفي روح الوصية الإصلاح وهي تشعر بروح القرب والمحبة ولذلك لا نقول: "قال القائد موصيا جنوده" وإنما نقول: "قال الوالد موصيا ولده: أي بني..."
والمواريث وتحديدها وتقديرها سلطة ربانية مشمولة بسلطة التشريع العامة ولكن إفرادها يشعر بخصوصيتها ومن جملة الميراث ميراث الأرض وبسط السلطان عليها..وهي هبة من الله مرتبطة بسنن كونية وضعها سبحانه منها: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون."
ولما كان القرآن كله مرتبطا ببعضه مفسرا لبعضه..وجدت تلك الآية الكريمة: "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده" هي وصية من موسى لقومه ألا ييأسوا إن رأوا فرعون قد بسط سلطانه علي أرض مصر..والعجيب أن المخاطب موسي والمخاطب قوم استضعفوا في أرض مصر..عن فرعون...وكأن التاريخ يعيد نفسه وكأن الشعب المصري كتب له أن يخاطب بها مرة ثانية وهو يزج به في العجلات الخلفية لملف قبيح أسود اسمه ملف التوريث...وكأن نداء موسى الكليم يأتي ليخفف من وطأة الأمر علي المؤمنين القابعين خلاف زنازين فرعون" لا تيأسوا...لا تراعوا...لا يهمكم توريث فرعون لمن هم خلفه...فهم مهما ضارعوا الله في ملكة عبيد من عبيده..يورثهم الأرض ..لا لحب لهم ولا امتياز وإنما ليختبرهم ويختبر الناس بهم...ليسلطهم علي أناس كي يعودوا إليه ويفيقوا من سباتهم العميق وفي الوقت ذاته ليعيثوا فسادا فيزداد رصيد سيئاتهم عنده حتى يأخذهم....
وتختتم الآية الكريمة بالبشري للذين أفاقوا: "والعاقبة للمتقين" ولعل تلك العاقبة عاقبتان أولاهما دنيوية تتمثل في وراثة الأرض وراثة نهائية بعد سقوط الفراعين- وهو حاصل قريب بإذن الله- وذلك كما أوضح: "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" أي وراثة نهائية أبدية لا يخشون بعد التمكين فيها ذعرا ولا رعبا. والثانية قد تكون عاقبة أخروية في التعويض عما فقدوا بتمام كلمة الله علي الناس كما أتمها علي عباده المخلصين من قبل.
...وتبقي كلمة...فالقضية هنا قضية توارث...توريث حكم وتوريث أرض وتوريث شعب...وفي التوارث تلاح وخصومة...ولذلك- كعادتة- أماط القرآن اللثام عن كل شي وحدد مقداره وبينه تبيينا لا يدع مجالا لخصومة ولا شبهة ولا سؤال...لكنه يدع مجالا لشيء واحد..هو العمل من أجل نيل تلك العاقبة....والله اعلم..

No comments: